الليرة التركية مقابل الدولار: تراجع قياسي رغم استراتيجية البنك المركزي
شهدت الليرة التركية مقابل الدولار تراجعات قياسية جديدة خلال الفترة الأخيرة، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الأمريكي حاجز 35.50 ليرة للمرة الأولى في تاريخها. تأتي هذه التحركات في ظل استمرار الضغوط الاقتصادية على العملة المحلية، مع ارتفاع معدلات التضخم وتأثير السياسات النقدية الحالية. ويواجه البنك المركزي التركي تحديات كبيرة في محاولة تحقيق استقرار العملة ضمن استراتيجية تستهدف الحفاظ على القدرة الشرائية لليرة، مع تقليل تأثيرات التذبذبات على الاقتصاد المحلي والأسواق المالية.
تعزيز الثقة وجذب الاستثمارات
كشفت البيانات عن سعي السلطات النقدية في تركيا لتعزيز الثقة بين المستثمرين الأجانب وجذب رأس المال الضروري لدعم الاقتصاد. يُعد ذلك من العوامل الحاسمة لتحفيز النمو. لتحقيق هذه الأهداف، اعتمدت تركيا سياسات تهدف إلى الحفاظ على استقرار العملة المحلية ضمن نطاق ضيق من الانخفاض.
بعد فوز الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية العام الماضي، قامت الإدارة الاقتصادية الجديدة بتنفيذ استراتيجية تركز على “التقدير الحقيقي” الذي يعتمد على القوة الشرائية، وهو ما يعني السماح لليرة بالضعف ولكن بوتيرة محكومة وأقل من معدل التضخم. الهدف من هذه السياسة هو تخفيف الضغوط التضخمية التي تنتج عن ضعف الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي، خاصة في ظل تقلبات الأسواق الناشئة التي تتأثر بالعوامل الإقليمية والدولية.
أداء الليرة ومكاسب المستثمرين
على الرغم من أن الليرة التركية فقدت 16% من قيمتها في العام الماضي، إلا أنها حققت مكاسب كبيرة عند تقييم القدرة الشرائية، وهي أكبر زيادة منذ عام 2007. هذه المكاسب أفادت المستثمرين الأجانب الذين حققوا عائدات تتجاوز 50% من السندات المقومة بالليرة. وغالبًا ما يعتبر المستثمرون المحليون سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار مقياسًا رئيسيًا لقوة الاقتصاد التركي.
استراتيجية البنك المركزي
منذ الهبوط الحاد في عام 2021، شهدت الليرة التركية انتعاشًا تدريجيًا في قيمتها الحقيقية، بعد أن فقدت نحو نصف قيمتها مقابل الدولار الأمريكي. ومع استراتيجية التقدير الحقيقي، يسعى البنك المركزي إلى الحد من خسائر الليرة لتظل أقل من معدل التضخم، بهدف تقليل الضغوط التضخمية والحد من تأثير ضعف العملة على الأسعار.
في تقرير السياسة النقدية لعام 2025، ذكر البنك المركزي التركي أن الأصول المقومة بالليرة ستظل جذابة للمستثمرين، ما يشير إلى أن ضوابط أسعار المستهلك ستظل من الركائز الأساسية للسياسات الرامية إلى الحد من التضخم. ومع أن من المبكر تقييم فعالية هذه السياسات، إلا أن بعض الخبراء يعتبرونها علامة إيجابية للمستثمرين في الأصول التركية.
تجارة الليرة التركية مقابل الدولار وفرص استثمار جذابة
قال بيتر كينسيلا، كبير استراتيجيي العملات في يونيون بانكر بريف، لوكالة بلومبرج: “تعد هذه الاستراتيجية مربحة للغاية”. وأوضح أن التداول بالفائدة على الليرة التركية كان يحمل فرصًا واعدة خلال الأشهر الستة الماضية، مشيرًا إلى أن التحدي الرئيسي يتمثل في وتيرة خفض البنك المركزي لأسعار الفائدة، ومدى تأثير ذلك على الاستثمارات المستقبلية.
وأضاف أن تجارة الفائدة تعتمد على اقتراض الأموال من الدول ذات أسعار الفائدة المنخفضة، مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، ثم استثمار هذه الأموال في البلدان ذات أسعار الفائدة الأعلى، مثل تركيا. وأكد أن استقرار سعر صرف الليرة التركية يعزز الثقة في هذه الاستراتيجية ويقلل من المخاطر المحتملة، مما يجعلها خيارًا أكثر أمانًا للمستثمرين.
في الأشهر الستة الماضية، تمكن المستثمرون الذين اقترضوا بالدولار الأمريكي واستثمروا في السندات المقومة بالليرة التركية من تحقيق عوائد متوسطة بلغت حوالي 15%. وتُظهر البيانات أن هذا العائد يتجاوز بشكل كبير نظيره على البيزو الأرجنتيني، الذي يعد من المنافسين الرئيسيين لليرة في تجارة الفائدة.
وفقًا لما ذكره كيفن دالي وكليمنس جراف من جولدمان ساكس، فإن تسريع خفض البنك المركزي التركي لأسعار الفائدة في المستقبل القريب يبدو مستبعدًا في الوقت الحالي. وأوضحا أن الأولوية الحالية هي الحفاظ على الاستقرار النقدي، خاصة أن أسعار الفائدة المنخفضة قد تحد من جاذبية الأصول المحلية للمستثمرين.
في الوقت ذاته، شدد دالي وجراف على أن بيانات التضخم والنشاط الاقتصادي الأخيرة تبرر نهجًا تدريجيًا في خفض أسعار الفائدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن السياسات التدريجية هي الأنسب للوضع الحالي لتحقيق التوازن المطلوب بين دعم الاقتصاد وضمان استقرار الليرة.
تأثير التضخم على أسعار الفائدة
وفقًا لما قاله كيفن دالي وكليمنس جراف من جولدمان ساكس، من غير المحتمل أن يسمح البنك المركزي التركي بتسريع خفض قيمة الليرة في المستقبل القريب، حتى بعد بدء خفض أسعار الفائدة في ديسمبر. وأكدوا أن الاستقرار النقدي أكثر أهمية في الوقت الحالي، حيث تعمل أسعار الفائدة المنخفضة على تقليص جاذبية الأصول المحلية.
على الرغم من توقعات المحللين بحدوث تخفيضات أكثر عدوانية في أسعار الفائدة خلال اجتماعات البنك المركزي في 2025، فقد حذر المسؤولون من الآثار السلبية المحتملة لهذه السياسة على الاقتصاد. وقال فيكتور سابو من أبردين للاستثمارات إن تداول الفائدة بالليرة لا يزال جذابًا في الوقت الراهن، لكنه أشار إلى ضرورة مراقبة سرعة خفض أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي التركي.
وأوضح سابو أن بيانات التضخم والنشاط الاقتصادي الأخيرة تبرر تسريع خفض أسعار الفائدة، لكن يبدو أن “الدورة التدريجية” هي الاستراتيجية الأكثر منطقية في هذه المرحلة. وتشير البيانات إلى تباطؤ التضخم السنوي في نهاية ديسمبر، حيث سجل 44.4% مقارنة بـ47.1% في نوفمبر.
تحديات أمام الاستقرار
هناك جانب سلبي لهذا التطور، حيث قد يؤدي ارتفاع القوة الشرائية لليرة إلى زيادة الطلب على الواردات، مما يشكل تهديدًا لميزان الحساب الجاري. وفقًا لمحللين، فإن الحفاظ على استقرار الليرة التركية مقابل الدولار يتطلب تدفقات مالية كبيرة لضمان استمرار مكاسب العملة.
أخيرًا، تظهر استراتيجية البنك المركزي التركي مزيجًا من التحديات والفرص. وعلى الرغم من الضغوط الاقتصادية الكبيرة، فإن النتائج الأولية تشير إلى تقدم نسبي في تحقيق الاستقرار النقدي، ما قد يدعم الاقتصاد التركي على المدى الطويل إذا ما استمرت هذه الجهود بشكل فعّال.
التعليقات مغلقة.